مُحاضَرةُ ليلةِ العَاشِر من مُحَرَّم 1446هـ بِعُنْوان(العرْفَانُ والشَّهادَةُ)
ورد في المقطع الأخير من القسم الأول من دعاء الحسين ع يوم عرفة: “أسألُكَ اللهُمَّ حاجَتي الَّتي إن أعطَيتَنيها لَم يَضُرَّني ما مَنَعتَني وَإن مَنَعتَنيها لَم يَنفَعني ما أعطَيتَني، أسألُكَ فَكاكَ رَقَبَتي مِنَ النَّارِ”
وورد في القسم الثاني من الدعاء: “إلهي عَلِمتُ بِاختِلافِ الآثارِ وَتَنَقُّلاتِ الأطوارِ أنَّ مُرادَكَ مِنّي أن تَتَعَرَّفَ إلَيَّ في كُلِّ شَيءٍ حَتَّى لا أجهَلَكَ في شَيءٍ”
العرفان والشّهادة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، فكلّما ارتقى المؤمن في معرفته ارتقى في عبادته، فطلب قربه ولقاءه، ومن أحبّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه.
ورد في تفسير قوله تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” عن أهل البيت ع: “أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ مَا خَلَقَ الْعِبَادَ إِلَّا لِيَعْرِفُوهُ فَإِذَا عَرَفُوهُ عَبَدُوهُ فَإِذَا عَبَدُوهُ اسْتَغْنَوْا بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ سِوَاهُ”
* العرفان:
العرفان لغة: شِدَّةُ المعرفة، وزيادة الألف والنون للمبالغة في المعنى، مثل: حُسبان.
اصطلاحًا: شدّة المعرفة بالله، ولهذا العلم تقسيمات عند علماء العرفان.
بعيدًا عن الدخول في تفاصيل هذا العلم، فالثابت أنّه لم يعرف اللهَ أحدٌ كمعرفة محمد وآل محمد.
رُوِيَ عَنِ اَلنَّبِيِّ ص: «يَا عَلِيُّ مَا عَرَفَ اَللَّهَ إِلاَّ أَنَا وَ أَنْتَ، وَ مَا عَرَفَنِي إِلاَّ اَللَّهُ وَ أَنْتَ، وَ مَا عَرَفَكَ إِلاَّ اَللَّهُ وَ أَنَا».
* الشهادة:
لغة: توثيق الحس، تقول: فلان شهد الحادثة، أي وثّقها حسًّا.
اصطلاحًا: القتلُ في سبيلِ الله، وله أحكامه الفقهية الخاصة.
مع أنّ القرآن عندما يتحدّث عن الشهادة بالمعنى الفقهي والاصطلاحي، لا يستخدم لفظ (الشهادة) وإنّما يستخدم (القتل):
– وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرۡزَقُونَ
– وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَن یُقۡتَلُ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتُۢۚ
– یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَیَقۡتُلُونَ وَیُقۡتَلُونَۖ
لكن باعتبار أنّ المقتول في سبيل الله يكون شاهدًا وشهيدًا، لذلك أطلق عليه لفظ الشهيد؛ لأنّه يشهد لمن يستحق الشهادة، ويشهد على من يستحق العقوبة.
* العرفان والشّهادة
إذا حصلت حالة شديدة من المعرفة بالله وتأكّدت، فإنّ العارف يتوق للوصول إلى الله.
عندما يتحدّث الإمام الخميني قدس عن السير والسُّلوك (العرفان العملي) يقول: الشهيد قطع كل مراحل السير والسلوك التي تحتاج إلى سنين، فيمكن للشهادة أن تختصر الطريق وتصل بالشهيد إلى لقاء الله.
العُرفاء عندهم ما يُسمى (الجذبة)، فهناك من يتدرّج
في الهداية، وهناك من ينقلب انقلابًا تامًّا مثل السّحرة الذين جاؤوا لمواجهة نبي الله موسى ع، فإذا هم يصلون إلى مستوى من الإيمان لا يزلزله حتّى القتل، ومثل ذلك الحُرِّ الرياحيّ، وزُهير بن القين الذين تأثّروا بجذبة الحسين ع.
* الحسين ع في دعاء عرفة
خلاصةُ الدُّعاءِ في مَطلَبَيْن:
المطلبُ الأوّل: ما يُرِيْدُهُ اللهُ من العَبْد.
جسّد الحسين ع التوحيد بكلّ مضامينه وأشكاله كتوحيد العبادة والأفعال والخالقيّة الرُّبوبيَّة وغيرها.
– التَّأثيرُ الإلهيّ العامّ:
يبدأ بالتأثير الإلهي العام على الوجود بأكمله: “الحَمدُ للهِ الَّذي لَيسَ لِقَضائِهِ دافِعٌ وَلا لِعَطائِهِ مانِعٌ وَلا كَصُنعِهِ صُنعُ صانِعٍ وَهُوَ الجَوادُ الواسِعُ، فَطَرَ أجناسَ البَدائِعِ…”، ثُمَّ يُسطِّرُ فقرات لبيان القدرة الإلهية المتعمّقة في كُلِّ شيء في الوجود.
– النِّعم الداخليَّة:
بعد ذلك نجد جذبة حسينية لله، فكما أنّ يوسف ع بعد أن رفع أبويه على العرش وخرّوا له سُجّدًا، وهذا مشهد نعمة، وإذا بيوسف يغفل عن ذلك فيقول: “رَبِّ قَدۡ ءَاتَیۡتَنِی مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِی مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِیِّۦ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ تَوَفَّنِی مُسۡلِمࣰا وَأَلۡحِقۡنِی بِٱلصَّـٰلِحِینَ” انجذب إلى الله مباشرة، فالحسين ع في الدعاء بعد أن تحدّث عن الأثر الإلهي والإبداع الإلهي في الوجود بأكمله عاد مباشرة إلى (النِّعم الداخليَّة) الإبداع الإلهي في ذاته، ولهذا فصّل نِعَمَ الله في خلقِهِ وبدنِهِ جزءًا جزءًا، فهي لا تُعدُّ ولا تُحصى.
– النِّعم الخارِجِيَّة:
بعد ذلك تحدّث عن (النِّعم الخارِجِيَّة) الإبداع الإلهي في الصُّنْعِ الخَارِجِيّ، فخلقتني وجعلتني في زمن رسول الله ص، ولم تخلقني في زمن أئمة الكفر والجور.
– التَّجربة الدينيَّة:
يتحدّث عن ما يُسمَّى في علم اللاهوت المسيحي بـ (التَّجربة الدينيَّة)، وهي القضايا التي جرّبها مع الله، فالحسين لم يقل إنَّكَ تَشفِ المريض (قضيَّة عامّة)، وإنَّما قال: “يا مَن دَعَوتُهُ مَريضاً فَشَفاني وَعُرياناً فَكَساني وَجائِعاً فَأشبَعَني وَعَطشاناً فَأرواني وَذَليلاً فَأعَزَّني وَجاهِلاً فَعَرَّفَني وَوَحيداً فَكَثَّرَني وَغائِباً فَرَدَّني وَمُقِلّاً فَأغناني وَمُنتَصِراً فَنَصَرَني وَغَنيا فَلَم يَسلُبني وَأمسَكتُ عَن جَميعِ ذلِكَ فَابتَدَأني”
تحدّث نبي الله زكريًّا عن تجربته الدينيّة فقال: “قَالَ رَبِّ إِنِّی وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّی وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَیۡبࣰا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَاۤىِٕكَ رَبِّ شَقِیࣰّا” أي كُلَّ ما دعوتُك أجبتني.
– حالات توحيديّة:
يتحدّث عن حالات من التوحيد لا يمكن تصوُّر اشتراك أحدٍ غير الله وحده فيها:
السَّحرة: “يا مَن استَنقَذَ السَّحَرَةَ مِن بَعدِ طُولِ الجُحودِ وَقَد غَدَوا في نِعمَتِهِ يا كُلونَ رِزقَهُ وَيَعبُدونَ غَيرَهُ وَقَد حادّوهُ وَنادّوهُ وَكَذَّبوا رُسُلَهُ” أمام تهديد فرعون والمصالح والدنيا الله وحده من أنقذهم؛ لصفاء نيّتهم، وصدقهم مع أنفسهم.
النبي يوسف ع: “يا مُقَيِّضَ الرَّكبِ ليوسُفَ في البَلَدِ القَفرِ وَمُخرِجَهُ مِن الجُبِّ وَجاعِلَهُ بَعدَ العُبوديَّةِ مَلِكاً يا رادَّهُ عَلى يَعقوبَ بَعدَ أن ابيَضَّت عَيناهُ مِنَ الحُزنُ فَهُوَ كَظيمٌ” اللهُ وحده من أنقذ يوسف ع بإرغام القافلة على المرور من هذا المكان الذي لا يمرّ به أحد.
النبي يونس ع: “يا مَن أخرَجَ يونُسَ مِن بَطنِ الحوتِ” إرادة الله وحدها من أنقذ يونس من بطن الحوت.
“وَمُمسِكَ يَدَي إبراهيمَ عَن ذَبحِ ابنِهِ بَعدَ كِبَرِ سِنِّهِ وَفَناءِ عُمُرِهِ، يا مَنِ استَجابَ لِزَكَريا فَوَهَبَ لَهُ يَحيى وَلَم يَدَعهُ فَرداً وَحيداً”
– النتيجة:
بعد أن فصّل الحسين ع كُلَّ الجوانب السابقة تأتي النتيجة: “إلهي عَلِمتُ بِاختِلافِ الآثارِ وَتَنَقُّلاتِ الأطوارِ أنَّ مُرادَكَ مِنّي أن تَتَعَرَّفَ إلَيَّ في كُلِّ شَيءٍ حَتَّى لا أجهَلَكَ في شَيءٍ”، وهذا الجانب من الدعاء يُمثّل التوحيد الأفعاليّ التّام، بحول الله وقوَّتِهِ أقومُ وأقعُدُ وأركَعُ وأسجُدُ وكُلُّ شيء أفعلُهُ.
المطلبُ الثَّاني: ما يُرِيْدُهُ العَبْدُ من اللهِ.
“أسألُكَ اللهُمَّ حاجَتي الَّتي إن أعطَيتَنيها لَم يَضُرَّني ما مَنَعتَني وَإن مَنَعتَنيها لَم يَنفَعني ما أعطَيتَني، أسألُكَ فَكاكَ رَقَبَتي مِنَ النَّارِ”
هذا العرفان الذي بلغه الحسين ع هو الذي جاء به إلى الشهادة.
إلهي تركتُ الخلق طُرًّا في هواكَ * وأيتمْتُ العيالَ لكي أراكَ
فلو قطَّعتَني بالحبّ إرْباً * لَما مالَ الفؤادُ إلى سواكَ
“إلهي فَلا تُحلِل عَلَيَّ غَضَبَك فَإن لَم تَكُن غَضِبتَ عَلَيَّ فَلا اُبالي”
تجلّى عرفانُ الحسين ع عندما طلب أن يمهلوهم سواد ليلة العاشر، فباتَ الحُسَينُ عليه السّلام وأصحابُهُ تِلكَ اللَّيلَةَ ولَهُم دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحلِ، ما بَينَ راكِعٍ وساجِدٍ وقائِمٍ وقاعِدٍ، وتالٍ للقرآن.