مُحاضَرةُ ليلةِ التَّاسِعِ من مُحَرَّم بِعُنْوان(كَرْبَلاءُ والمُعَاصَرَة)
قال تعالى: “إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَیَجۡعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وُدࣰّا”
المحور الأول: معاني المعاصرة ومظاهرها وتجلياتها في حركة الإمام الحسين ع
المحور الثاني: كيفية إحياء هذه الحركة بأساليب معاصرة.
– المحور الأول: معاني المعاصرة ومظاهرها وتجلياتها في حركة الإمام الحسين ع
* معاني المعاصرة:
المعنى الأول: الخلود والبقاء والحيوية والحياة في كل عصر، فالشخص الخالد الذي يبقى ذكره والاستفادة منه والبكاء عليه.
المعنى الثاني: صلاحية الحدث لأن يعالج مشاكل كل زمان ومكان بشكل متحرك وفاعلٍ في كل الأزمنة والأمكنة وفي كل الأجيال.
* وقفات مع الآية الشريفة:
الوقفة الأولى: “وُدࣰّا”
– في الآية إشارة إلى نمط من أنماط الخلود.
– الحُبُّ هو الانجذاب القلبي والنفسي.
– الودُّ هو الحب الذي تظهر آثاره قولًا وفعلًا، وليس مجرّد الانجذاب القلبي والنفسي.
– المَوَدَّةُ في قوله تعالى: “قُل لَّاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِی ٱلۡقُرۡبَىٰ” تعني الحب الشديد الذي تظهر آثاره.
– لفتة لغويّة:
(المَوَدَّةُ) مصدرٌ ميمي يدلُّ على المعنى بشدَّةٍ وزيادة، فالودُّ يدل على مستوى من الحب الذي تظهر آثاره، لكن المودّة تدل على مستوى أكبر.
لذا يقول الإمام زين العابدين في مناجاة التائبين: “إلهي ألبَسَتني الخطايا ثَوبَ مَذَلَّتي وَجَلَّلَني التَّباعُدُ مِنكَ لِباسَ مَسكَنَتي” يعني ذلّة شديدة، ومسكنة وخضوع شديدًا.
الوقفة الثانية: “سَیَجۡعَلُ”
– وعد مستقبلي متحرك، كلّما جاء زمن تحقَّقَ هذا الودُّ وسيتحقق. وهذا معنى الخلود تكون حالات من الحب الذي تظهر آثاره في كل زمن، وهذا يكشف عن خلود هؤلاء.
– من قبيل قوله تعالى: “سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ”
الوقفة الثالثة: “روايات سبب النزول”
– ورد في سبب نزول الآية روايات عند العامّة والخاصّة، ومنها ما رواه السيوطي في الدُّر المنثور: أخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ، والدَّيْلَمِيُّ عَنِ البَراءِ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَلِيٍّ: قُلِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا، واجْعَلْ لِي عِنْدَكَ وُدًّا، واجْعَلْ لِي في صُدُورِ المُؤْمِنِينَ مَوَدَّةً، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ قالَ: فَنَزَلَتْ في عَلِيٍّ»
الوقفة الرابعة: “متعلّق الودّ وعموم الآية”
– كلمة الودّ في الآية محذوفة المتعلَّق، وحذف المتعلق يدل على العموم، أي ودًّا في كلِّ القلوب، فالآية فيها عموم، والواقع يصدّق هذا العموم، فأهل البيت تحبهم كل القلوب النقية.
– مثال توضيحي: عندما تقول: “كُلْ التفاح” ذكرت المتعلّق فقيّدته بأكل التفاح، لكن عندما أحذف المتعلّق فأقول “كُل” أطلقت له الأكل.
* مظاهر وتجليات المعاصرة:
أولًا: مظاهر المعاصرة بالمعنى الأول الخلود والبقاء:
أحد معاني ومظاهر المعاصرة في حركة الحسين ع هو خلود هؤلاء على مستوى الحب الذي تظهر آثاره على مستوى المأساة ليس في كل موسم بل في كل يوم، وهذ نستفيده من عدّة شواهد:
1/ رسول الله الذي أقام مأتمًا على الحسين في بيوت أمهات المؤمنين وفي المسجد ومع الصحابة.
2/ الإمام الحجّة عج في زيارة النّاحية المقدّسة: “لأندبنّكَ صباحًا ومساءً ولأبكينّ عليكَ بدَلَ الدموع دمًا”.
ثانيًا: مظاهر المعاصرة بالمعنى الثاني الصلاحية:
من مظاهر المعاصرة صلاحية الحدث لأن يعالج مشاكل كل زمان ومكان وبشكل متحرك وفاعلٍ في كل الأزمنة والأمكنة، وفي كل الأجيال. وهذا نلحظه من خلال عدّة أبعاد:
البُعد الأوَّل: البُعدُ الإنسانيّ
حركة الحسين ع حركة إنسانية تحرِّرُ الإنسان من الظلم والعبودية والتخلف وتحقِّقُ العدل والإصلاح، وكُلُّ إنسانٍ يريدها، وكذلك الظَّلمَةُ والطُّغاة موجودون في كل زمان ومكان.
من خطابات الحسين ع التي تتجلى فيها أبعاد إنسانية عامّة، تنطبق على الواقع المعاصر:
“يا شيعَةَ آلِ أَبي سُفْيانَ! إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دينٌ، وَكُنْتُمْ لا تَخافُونَ الْمَعادَ، فَكُونُوا أَحْرارًا في دُنْياكُمْ هذِهِ، وَارْجِعُوا إِلى أَحْسابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عُرُبًا كَما تَزْعُمُون، أَنَا الَّذي أُقاتِلُكُمْ، وَتُقاتِلُوني، وَالنِّساءُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ”
“إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دينٌ”:
لم ينفي عنهم الإسلام بل نفى عنهم مطلق الدّين، فالدّين يُأطِّرُ الإنسان ويُقيّده عن تجاوز الخطوط الحمراء، فليس هناك دين من الأديان السماوية ولا الوضعية إلا وتمثّل النساء والأطفال خطوط حمراء.
“وَكُنْتُمْ لا تَخافُونَ الْمَعادَ”:
لا تحركون عقولكم، ولا تفكّرون في عاقبة هذا العمل، ولا تحتملون وجود يوم يعاقبكم الله فيه.
هن قاعدة عقلية كلامية وهي قاعدة (دفع الضرر المحتمل) فاحتمال وجود السم في الطعام ولو بنسبة بسيطة، العقل يحملني على ترك أكله؛ لدفع الضرر المحتمل، فكُلّ العقلاء يلومون من يأكل منه.
“وَارْجِعُوا إِلى أَحْسابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عُرُبًا كَما تَزْعُمُون”: العرب يحفظون حرمة النساء والأطفال.
تطبيق خطاب الحسين ع على مجازر اليهود والصهاينة في فلسطين الذين تجرّدوا عن الدين والعقل والقيم.
فهل الدين اليهودي والتوراة يدعوهم إلى ما يفعلون !؟
أم هل العقل يدعوهم إلى هذا الفعل المجنون الذي فيه سقوط إسرائيل!؟
أليس لهم أي قيمة إنسانية أو عرفية أو قومية !؟
البُعدُ الثاني: البُعد الإصلاحيّ والتغييريّ
المفردات التي طرحها الحسين (الأصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعزة، والكرامة) مفردات تبحث عنها فطرة الإنسان، بل حتّى المفسدين يحملونها ويدعون إليها “ألَا وإنّ الدَعِيَّ ابنَ الدَعِيِّ قدْ رَكَزَ بينَ اثنَتَينِ: بينَ السِّلَّةِ والذِّلَّةِ، وهيهاتَ منّا الذِّلَّةُ، يأبَى اللهُ لَنَا ذلكَ ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ، وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرتْ، وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ مِنْ أنْ نؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ على مصارِعِ الكِرَامِ”.
البُعدُ الثالث: البُعد القرآنيّ
في عقيدتنا كما أنّ القرآن صالح لكل زمان ومكان، فمن جسّد القرآن – وهو المعصوم – صالح لكل زمان ومكان، وفي الروايات هناك وجود للقرآن في أهل البيت ع.
الرسول ص يشكو يوم القيامة إلى الله: “وَقَالَ ٱلرَّسُولُ یَـٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِی ٱتَّخَذُوا۟ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورࣰا” أيُّ قرآن؟
المعنى الأول للقرآن: هجر القرآن الظاهري بمستويات الهجر المتعدّدة: (هجر التلاوة، وهجر تدبّر، وهجر عمل، وهجر نظم، وهجر معرفة …).
المعنى الثاني للقرآن: هجروا عليًّا؛ لأنّه القرآن النّاطق.
يقول أمير المؤمنين ع: “ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ وَلَنْ يَنْطِقَ وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ أَلَا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي وَدَوَاءَ دَائِكُمْ وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ” فالإمام نموذج قرآني عملي.
ثنائية القرآن والمعصوم عند العُرفاء:
العرفاء عندهم ثنائية في العلاقة بين القرآن والمعصوم، فيقولون: “القرآنُ إمامٌ تدونيّ، الإمامُ قرآنٌ تكوينيّ”، وهذا يعني:
“القرآنُ إمامٌ تدونيّ”: أنّ القرآن المكتوب شخّص سمات وخصائص الإمام المعصوم في آية التطهير والمباهلة والإطعام وغيرها آلاف الآيات، بعضها نزلت بسبب فيهم، وبعضها هم مصداقها، فأي آية تتكلّم عن الكُمَّلِ من الخلق، فمصداقها الأكمل محمد وآل محمد، فهم من أنعم الله عليهم، وهم المتقون، وهم عباد الرحمن.
“الإمامُ قرآنٌ تكوينيّ”: أنّ القرآن تتحقّقُ مضامينه من خلال من يجسّدها في الواقع الخارجي، وهو المعصوم. ومن شواهد ذلك آية التصدّق بالخاتم، وقوله: “وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَشۡرِی نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ” التي جسّدها أمير المؤمنين، وكذلك عندما سئلت إحدى زوجات النبي ص عن خُلُقِهِ فقالَتْ: “كان خُلُقُه القُرآنَ”.
– المحور الثاني: كيفية إحياء هذه الحركة بأساليب معاصرة.
مظاهر الإحياء من جوانبها المختلفة:
أولًا: جانب الحماسة والسياسة:
تدعونا إلى الإصلاح والمطالبة بالحقوق والتخلّص من الذُّل والمعبودية.
ثانيًا: جانب المأساة والتراجيديا:
نُعبّر عن عاشوراء ونعرض تفاصيلها للعالم من خلال ما أرشدنا إليه أهل البيت ع من أساليب، وهي: البُكاء والزيارة والشّعر.
والشِّعرُ يفتح أُفُقًا فنّيًّا؛ لأنّه مفردة من مفردات الفنّ، فنقف من خلاله على دائرة الفنّ كالرّسم والمسرح والإعلام والمعرفة.
نحن مع علي الأكبر ع الذي مثّل حالة خاصّة للحسين ع، إضافة إلى حُبِّهِ الذَّاتيّ له؛ لِبُنُوَّتِهِ، عنده امتيازات جعلت الحسين يزداد فيه حُبًّا، ومنها التفاني في الحق عندما قَالَ عَلِيُّ الْأَكْبَرِ لِأَبِيهِ الْإِمَامُ الْحُسَيْنُ ع: أَوَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ، فَرَدَّ الْإِمَامُ الْحُسَيْنُ : بَلَى وَالَّذِي إِلَيْهِ مَرْجِعُ الْعِبَادِ فَقَالَ عَلِيُّ الْأَكْبَرِ : إِذَنْ لَا تُبَالِي أَوْقَعْنَا عَلَى الْمَوْتِ أَمْ وَقَعَ الْمَوْتُ عَلَيْنَا.