للمرأة في تاريخنا الإسلامي دوراً كبيرا لا يقل في أهميته عن دور الرجال من حيث الأهمية فضلاً عن كونها العماد الرئيسي للأسرة المسلمة. ومع أن نوعاً من التعتيم المقصود قد لف بعضا من حياة هذه الشخصية العظيمة إلا أن نورها أبى أن ينطفئ بإرادة الله سبحانه وتعالى وقد سجل التاريخ لنا ما بلغته من رفعة المركز، تلك هي (أم البنين) العابدة الزاهدة المحبة للخير الصانعة للمعروف الناهية عن المنكر، فهي مع حداثة سنها قد نالت مكانة لائقة بها في المجتمع وحب أهل الفضل لها، ولا تزال تحتفظ بهذه المنزلة بين المنصفين في فرز الشخصيات التاريخية. لعدة أسباب من أهمها زواجها من أمير المؤمنين وإنجابها أبطال كربلاء وعلى رأسهم أبو الفضل ودورها مع الحسن والحسين (عليهما السلام) بعد فقدان أمهما ودورها البارز في مقارعة الأمويين وفضح أكاذيبهم.
مولد أم البنين و نشأتها
كان حزام بن خالد بن ربيعة في سفر له مع جماعة من بني كلاب، نائما في ليلة من الليالي فرأى كأنه جالس في أرض خصبة وقد انعزل في ناحية عن جماعته وبيده درة يقلبها وهو متعجب من حسنها ورونقها وإذا يرى رجلاً قد أقبل إليه من صدر البرية على فرس له فلما وصل إليه سلم فرد ثم قال له الرجل: بكم تبيع هذه الدرة، وقد رآها في يده فقال له حزام إني لم أعرف قيمتها حتى أقول لك ولكن أنت بكم تشتريها؟ فقال له الرجل: وأنا كذلك لا أعرف لها قيمة ولكن أهدها إلى أحد الأمراء وأنا الضامن لك بشيء هو أغلى من الدراهم والدنانير، قال ما هو؟ قال الرجل: اضمن لك بالحظوة عنده والزلفى والشرف والسؤدد أبد الآبدين، قال حزام أتضمن لي بذلك قال نعم قال: وتكون أنت الواسطة في ذلك، فقال الرجل وأكون أنا الواسطة أعطني إياها فأعطاه إياها.
فطلب حزام تأويلها فقال له أحدهم إن صدقت رؤياك فانك ترزق بنت ويخطبها منك أحد العظماء وتنال عنده بسببها القربى والشرف والسؤدد. فلما رجع من سفره، وكانت زوجته ثمامة بنت سهيل حاملة بفاطمة أم البنين وصادف أن تضع المولودة عند قدوم زوجها من سفره، فبشروه بذلك فتهلل وجهه فرحاً وسر بذلك، وقال في نفسه قد صدقت الرؤيا، فقيل له ما نسميها فقال لهم سموها: “فاطمة” وكنوها: “أم البنين” وكنيت فاطمة بنت حزام بأم البنين على كنية جدتها ليلى بنت عمرو.
ونشأت أم البنين في حضانة والدين شفيقين حنونين هما حزام بن خالد بن ربيعة، وثمامة بنت سهيل وكان لأم البنين قابلية للتعليم ووهبها الله نفساً حرة طاهرة وقلباً سليماً ورزقها فطنة وذكاء، وعقلاً رشيداً أهلها لمستقبل سعيد. فلما بلغت مبالغ النساء كانت مضرب المثل في الجمال والعفاف و العلم والآداب والأخلاق، بحيث اختارها عقيل بن أبي طالب لأخيه أمير المؤمنين (ع).
الخطبة :
قال أمير المؤمنين (ع) لأخيه عقيل: أنظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة والشجاعة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً شجاعاً وعضداً ينصر ولدي الحسين (ع) في كربلاء. فقال له: تزوج أم البنين فلما مضى عقيل بن أبي طالب في مهمته ورد بيت حزام بن خالد بن ربيعة ضيفا على فراش كرامته وكان خارج المدينة، فرحب به ونحر له وبشره عقيل جئتك بالشرف الشامخ … أخطب ابنتك الحرة فاطمة أم البنين إلى يعسوب الدين وقائد الغر المحجلين وسيد الوصيين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
فلما سمع حزام هش وبش ثم قال بخ بخ بهذا النسب الشريف والحسب المنيف لنا الشرف الرفيع والمجد المنيع بمصاهرة ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبطل الإسلام وقاسم الجنة والنار، ولكن يا عقيل أنت جد عليم ببيت سيدي ومولاي، أنه مهبط الوحي ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة وأن مثل أمير المؤمنين ينبغي أن تكون له امرأة ذات معرفة عن علم وآداب في ثقافة وعقل مع أخلاق حسنة حتى تكون صالحة لشأنه العالي ومقامه السامي، وأن ابنتنا من أهل القرى والبادية ولعلها لا تصلح لأمير المؤمنين (ع). فقال عقيل يا حزام أن أخي يعلم بكل ما قلته فقال حزام إذاً تمهل حتى أسأل عنها أمها هل تصلح لأمير المؤمنين أم لا؟
وبعد أن شاور حزام زوجته وابنته وسمع من ابنته ما رأته أم البنين في المنام أقبل إلى عقيل وهو مستبشر فقال له عقيل ما ورائك قال كل الخير إن شاء الله قد رضينا بأن تكون ابنتنا خادمة لأمير المؤمنين (ع)، فقال عقيل لا تقل خادمة بل قل زوجة.
ثم قال عقيل لحزام هل لكم رأي في صداقها قال حزام هي هبة منا إلى ابن عم رسول الله (ص) فقال عقيل بل ممهورة. أما المهر فهو ما سنّه رسول الله (ص) في بناته وزوجاته خمسمائة درهم، وأما الهدية فلكم ما يرضيكم ويزيد فقال حزام أعلم يا عقيل إنا لا نطمع في المال ولكن نطمع في الرجال ثم نهض حزام ودخل على زوجته ثمامة وهو يقول: البشارة فقد قبل عقيل بن أبي طالب ابنتك زوجة لأخيه أمير المؤمنين. فلما سمعت ذلك منه خرت ساجدة لله شكراً وقالت الحمد لله الذي جمع شملنا بمحمد المصطفى وعلي المرتضى (ع) ثم أقبلت على ابنتها فاطمة تهنئها وتقبلها.
ثم أن حزام دعى عشيرته من بني كلاب وعامر، فلما اجتمعوا قام عقيل بن أبي طالب خطيبا: فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه ثم قال: نحمد الله نحن العرب إذ جعلنا من خير خلقه وأرسل فينا رسولاً من أنفسنا وجاءنا بدين الله القويم وحبب لنا صلة الأرحام والاتحاد، وحرم علينا الزنى والسفاح، وأحل لنا الزواج والنكاح وهذا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، قد أحب مصاهرتكم وخطب كريمتكم فاطمة أم البنين.
وقام حزام بن خالد، خطيباً ثم قال: يا قومي قد سمعتم ما قاله عقيل وأني قد ارتضيت علي بن أبي طالب لابنتي بعلاً، فما تقولون؟ فقالوا يا حزام ما تريدنا أن نقول في ابن عم رسول الله من لنا بأكرم منه حسباً أو بمثله نسباً، فلنا الشرف والمجد والسؤدد ومن لنا بأكرم منه حسباً أو بمثله نسباً، فنعم ما صنعت.
فلما وصل عقيل إلى المدينة وأخبر أخاه أمير المؤمنين (ع) بذلك أرسل لهم الصداق و الهدايا. ثم هيئت فاطمة بخمسة هوادج وألبسوها الثياب الفاخرة و الحلي. فلما وصلوا المدينة، خرجت في استقبالهم النساء والرجال من بني هاشم وهم في فرح وسرور فأمر أمير المؤمنين (ع) بعمل وليمة عظيمة لهم تليق بشأنه ومكثوا ثلاثة أيام في ضيافة أبي الحسن (ع). وقد ارتفعت الأصوات بالصلاة والسلام على محمد (ص) وآله الأطهار من جميع النساء، وأدخلوها بهذه الهيئة الحسنة الجميلة.
وهنا أوصت بنت الحارث ابنتها حين زفت إلى زوجها: يا بنية احملي عني عشر خصال: تكن لك ذخراً وذكراً: الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، والتعهد لموقع عينه والتعقد لموضع أنفه فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، والتعهد لوقت طعامه، والهدوء عنه عند منامه، والاحتفاظ ببيت ماله، والارعاء على نفسه وحشمة عياله، ولا تفشي له سراً، ولا تعصي له أمراً، ثم اتقي الفرح أمامه إن كان ترحاً، والاكتئاب عنده إن كان فرحاً، وكون أشد ما تكونين له إعظاما، يكن أشد ما يكون لك اكراماً، وأشد ما تكونين له موافقة، يكن أطول ما يكون لك مرافقة.
وعاشت فاطمة العامرية- كما يقال بعض المؤرخين عشرين عاماُُ بعد أمير المؤمنين، ولم تقبل الزواج بأحد وفاءً منها لصاحب راية رسول الله، فكانتْ وفاتُها المؤلمة في الثالث عشر مِن جمادى الآخرة سنة 64 هـ. فسلامٌ على تلك المرأة النجيبة الطاهرة، الوفيّة المخلصة، التي واست الزهراء (ع) في فاجعتها بالحسين (ع)، وأنابت عنها في إقامة المآتم عليه، فهنيئاً لها ولكل من اقتدت بها من المؤمنات الصالحات